«الهوية».. توجهاً نحو المستقبل

السبت 22 فبراير 00:32

عادل خزام

تحتضن جامعة نيويورك أبوظبي المعرض الفني (انتماء) حتى الثامن والعشرين من مارس المقبل، وهو سادس المعارض التي تنظمها منصة «أ. ع. م. اللامحدودة» بالتعاون مع رواق الفن في جامعة نيويورك أبوظبي، وبدعمٍ من وزارة الثقافة وتنمية المعرفة. ويقدم المعرض تجارب أربعة فنانين وأربعة شعراء شباب من الإماراتيين والعرب الذين خاضوا فيما بينهم ورشاً لصياغة مخرجات هذا المعرض الذي تمثّل في النصوص الشعرية والأعمال الفنية المتداخلة. بإشراف ناصر عبدالله القيّم الفني للمعرض. هنا قراءة في حيثيات هذه التجربة وأبعادها الفنية والشعرية والفلسفية.
على عكس التجارب التي خاضت في سؤال الهوية باعتبارها جذراً تاريخياً للذات، وقيم ولاء وانتماء إلى محددات وتكوينات ماضوية. نقرأ مفهوم الهوية في هذا المعرض باعتبارها توجهاً نحو المستقبل، وفتحاً لأبوابه ونوافذه المواربة. ذلك لأن الهوية لا تقتصر على اكتشاف الذات في المكان، وهي بالتأكيد ليست خطاباً ثقافياً مكرراً يعيد إنتاج الجاهز ويرسّخ الرؤى التقليدية نفسها، وإنما هي تخطٍ دائم ومستمر نحو فرز سؤال جديد حول الأبعاد والمؤثرات التي تُحدثها هذه الأعمال الفنية والأدبية في الزمن. وعندما يتجاور الشعر بعوالمه المجردة، وتتداخل الكلمات مع الألوان والأشكال المحسوسة في الفن، فإن مفهوم الهوية، إذا حاولنا التعرف عليه في هذه الأعمال والقصائد، يتشظى في اتجاهات مختلفة، ويصبح أثراً ينتمي للمستقبل.

(هوية الشتات)
لم يعد الانتماء إلى ثقافة المكان محدداً أصيلاً لهوية الإنسان اليوم. وفي عمل الفنان السوري مجد علوّش يبرز (الشتات) باعتباره مكوناً جوهرياً لهوية تتشكل من واقعها وظروفها الراهنة اليوم، لا من انتماءها إلى اللغة والتاريخ وبلد المنشأ والميلاد. وهذا يعني أن الهوية قابلة للانتقال والتغيير، تماماً مثل القطع المعدنية التي يعرضها علّوش هنا، وقد لعبت فيها عوامل التعرية والرياح وشكّلتها لتصبح ذات طبيعة مختلفة عن جوهرها الأصلي.
في مقابل عمل علّوش، ترتفع صرخة الشاعر الإماراتي علي المازمي وكأنها خارجة من جوف إنسان مأزوم بأسئلة الوجود كلها. تبدأ القصيدة باستدعاء لحظة الخلق وخروج آدم من الجنة، وكأنما هو خروج من الجوهر الأصلي أو الوطن الأول، وكل ما يأتي بعد هذا الخروج هو اغتراب وتفكك للهوية الأصلية وضياع مستمر حتى النهاية.

(مراقبة اللحظة)
أقف أمام عمل الفنان سعيد المدني هادئاً ومستقراً، لكن ضربات البرق والرعد التي تنهال على قطع الكمأ (الفقع) تجعلني أنا أيضاً، في كل لحظة، أتحول إلى إنسان آخر. يبدو التغيير الذي يحدث هنا وكأنه (هوية دائمة) ومستمرة. فالقطع الفنية المعروضة تتغير نتيجة تعرضها لعوامل ومؤثرات خارجية، بمعنى أن الخارج يؤثر في الداخل، في العمق والجوهر وليس في الشكل فقط. مرة أخرى يُعيد هؤلاء الشباب صياغة مفهوم الهوية بأشكالٍ تبدو لا نهائية. الشاعر حسن النجّار الذي يشارك في هذا المعرض بنصٍ مفتوح على جميع المتناقضات، كتب مرة يقول: (أشعرُ أني خواءٌ يسيرُ إلى الهاوية). لكن النجّار يحيلنا في نصوصه الشعرية إلى أفكار أخرى أكثر انتماء إلى الحاضر. تقول إحدى قصائده:
للبداية عادوا
وعاد السؤال بنار اشتعالاته
وتأجل كالعادة الموعد
هذه العبارة تتطابق حد الانسجام مع فكرة العمل الفني لدى سعيد المدني. كلاهما يراقبان تشكّل الهويات نتيجة الأثر الخارجي. مرة بأثر العواصف والرعد، ومرة باشتعال السؤال من جديد.

(انسجام الأضداد)
هل تلعب الطبيعة من حولنا دوراً في تشكّل هويتنا وتعددها واختلافها حتى لو كنا من نفس الجنس والفصيلة والنوع؟ بالطبع نعم. ولكن ما هو هذا الدور، وكيف نرصد تفاصيله العميقة في الأشكال والمواد التي تكوّن العمل الفني؟ تقدم لنا الفنانة سارة المهيري في هذا المعرض أفكاراً فلسفية حول الجوهر المتغير للأشياء المتشابهة. للفرعين من الشجرة نفسها، وللأخوة من الأبوين نفسيهما. هذه القطع الحجرية، وهذه التراكيب الخشبية الهندسية، لا تستعرض مهارة الصناعة التقليدية الحرفية، وإنما تجذب المشاهد كي يمعن النظر، لاكتشاف الفروق الواضحة في المادة الواحدة نفسها. يُفترض هنا أننا أمام عمل تركيبي من الخشب أو الأحجار، لكننا في الحقيقة أمام تدرجات لا نهائية من الأشكال والألوان لمادة الخشب نفسها مدموجة في إيقاع بصري متناغم. هذا يعني أن المجتمعات البشرية يمكن أن تتشكل من المادة الثقافية الخام نفسها، وأن الشكل الظاهر للمجتمع، يحيلنا إلى صورة عامة تبدو واحدة في المجمل، وكأننا أمام هوية جماعية. لكن الرؤية الفنية البصرية للحياة، كفيلة بتفكيك هذا الانسجام المخادع، وإدراك التناقضات والتنافرات.

الإنسان ما يكمل ولو قلت كملتْ
الله عطاها كل شيء باقي أنا
يكرر هذا البيت للشاعر أحمد المناعي مفهوم الهوية في عمل سارة المهيري، ولكن بصيغة مختلفة ومغايرة في الشكل والتكوين. وللشاعر قصيدة أخرى كاملة نقرأها في هذا المعرض تذهب في الاتجاه نفسه. أي أن الهوية تظل ناقصة ما لم تلتق بنقيضها. ولا تقف هذه الرؤية عند حدود الاكتفاء بمعنى التناقض، وأنما تذهب إلى جعل الضدية شرطاً للكمال. الأنا، باتحادها مع الآخر، تكتسب هويتها المستقبلية، وتصبحُ مكتفية بذاتها.

لغةٌ واحدة بلسانين
ليس جديداً أن نرى مبدعاً ينتمي إلى هويتين أو جنسيتين، لكن المختلف أن الفنان الفرنسي ‏الجزائري سفيان سي مرابط يستدعي رموز وأشكال هذه الهويات بحثاً عن بابٍ لخروج ذاته المزدوجة منها. الأزياء التقليدية للمهاجرين الجزائريين لفرنسا، وملابس وأحذية التزلج على الجليد للفرنسيين أنفسهم، هي أمثلة للشبه وليس للاختلاف. لا يوجد جديد هنا إلا في انتماء العمل الفني إلى اللحظة المستقبلية لسفيان وهو هنا في الإمارات، حيث تتكون من جديد (هويته الثالثة)، عندما يجمع الأشكال والصور والذكريات المتعددة لانتماءاته، ثم يضعها في إطار جديد، ليكتشف أن الزمن والمكان عنصران متغيران في تكوين هوية الذات.
ما يقوله سفيان، نرى ملامح قريبة منه في قصائد شما البستكي، وهي شاعرة إماراتية تكتب نصوصها بالإنجليزية. مرة أخرى تبرز هنا الهوية المركبة من لسانين. تعبّر شما عن أشياء الحياة وعلاقتها بالوجود بلغة ثانية، وتضطر أحيانا إلى تضمين هذه النصوص أسماء الأدوات والأمكنة كما تُنطقُ محلياً. وفي فضاء هذه النصوص تلجأ شما إلى وصف الواقع والقبض على تفاصيله الدقيقة، لكن خطابها الذاتي هذا، يبدو وكأنه موجه إلى الآخر المختلف في اللغة واللسان.
هذا التجاور في الأفكار والرؤى بين هؤلاء الفنانين والشعراء، يمدّنا بخلاصة أن سؤال الهوية سيظل متجدداً مع الإنسان، ربما تختلف أشكال التناول والطرح، لكن بالتأكيد يظل الخيط الذي يربط ما بينهم حاضراً حتى وأن لم تره العين، وهو بالتأكيد خيط الانتماء إلى المستقبل.